أبوظبي (الاتحاد)
«عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي»، على الرغم من هذه الكلمات التي ضمنها الروائي السوري حنا مينه (1942-2018) وصيته التي نشرتها الصحافة العربية قبل عشر سنوات، يظل كتابة خبر عن موته أمراً لابد منه، حيث إن «مينه» الذي جلس في سنواته الأخيرة على كرسيه الهزاز قبالة البحر منتظراً موته بقلبه الكبير والشجاع، سيصفح لنا خرق وصيته تلك، فما هذا الخبر إلا تلويحة مواساة لقرائه وعرفاناً لأدبه الإنساني الوفير.
عاش حنا، الذي توفي في أمس يوم الحادي والعشرين من أغسطس الجاري، طفولته في إحدى قرى لواء الإسكندرون على الساحل السوري، وفي عام 1939، -كما تشير مصادر عدة تناولت سيرته ومنها «ويكيبيديا»- عاد مع عائلته إلى مدينة اللاذقية وهي عشقه وملهمته بجبالها وبحرها. وكافح كثيراً في بداية حياته وعمل حلاقاً وحمالاً في ميناء اللاذقية، ثم كبحار على السفن والمراكب. واشتغل في مهن كثيرة أخرى منها مصلّح دراجات، ومربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية إلى صحفي أحياناً، ثم إلى كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة، إلى روائي.
تأثر «مينه» كثيراً بمدينة اللاذقية في أعماله التي ركزت كثيراً على البحر وأهله، واتسمت بالواقعية. يقول عن ذلك: «إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّداً؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟».
تعد رواية «المصابيح الزرق» أول أعماله الروائية والتي صدرت عام 1954، ثم توالت مؤلفاته ومنها
«الثلج يأتي من النافذة» 1969 و«الشمس في يوم غائم» 1973 و«الدقل» 1982، و«كيف حملت القلم» 1986، و«الربيع والخريف»1991، و«الرحيل عند الغروب» 1992، و«النجوم تحاكي القمر» 1993، و«المرأة ذات الثوب الأسود» 1996، و«المرفأ البعيد» 1997، و«المغامرة الأخيرة» 1997، و«نهاية رجل شجاع» 1997، و«الفم الكرزي» 1999، و«حكاية بحار» 1999، وغيرها الكثير من المؤلفات التي جعلت «مينة» شيخاً للرواية السورية، وأحد أبرز الروائيين العرب.
وقد نشر «مينه» وصيته قبل عشر سنوات، وتحديداً بتاريخ 17/8/2008، وجاء فيها: «أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه «لكل أجل كتاب». لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين. عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهل، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية. كل ما فعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل. لا عتب ولا عتاب، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النعم. أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قراء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة. لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات، بأي شكل، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثم، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التآبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، أستغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها. كل ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي. زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكل إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها».